من أعماق المختبرات البيطرية : مقالة علمية لتدريسية تكشف دور الفطريات في معالجة التلوث الإشعاعي والبلاستيكي

التكيّفات البايوكيميائية والبيئية للفطريات لمعالجة التلوث الإشعاعي والبلاستيكي

 لـ الاستاذ المساعد الدكتور اساور اسعد محمد
يُعد التلوث البيئي من أخطر التحديات التي تواجه العالم في القرن الحادي والعشرين، لما يترتب عليه من آثار بالغة على النظم البيئية وصحة الإنسان واستدامة الحياة على كوكب الأرض. فقد أسهمت عوامل عدة، من أبرزها التصنيعالبلاستيكي المفرط، وأنماط الاستهلاك غير المستدامة، وممارسات إدارة النفايات غير الكفؤة، في الوصول إلى مستويات غير مسبوقة من التلوث في الغلاف الجوي والمائي واليابسة. ومن بين أشكال التلوث المستعصية على وجه الخصوص، يتميز كل من التلوث الإشعاعي والنفايات البلاستيكية بقدرتهما الكبيرة على الاستدامة، وتراكبهما الحيوي، وما يترتب عليهما من آثار بيئية واسعة النطاق. فالتلوث الإشعاعي، الناتج عن الحوادث النووية، أو اختبارات الأسلحة، أو التخلص غير السليم من المواد المشعة، يؤدي إلى جعل مساحات شاسعة غير صالحة للسكن لعقود طويلة، كما تجسد ذلك كارثة تشيرنوبيل. وبالتوازي مع ذلك، يؤدي التلوث البلاستيكي، الناتج عن الإنتاج الواسع للبوليمرات غير القابلة للتحلل والتخلص العشوائي منها، إلى تراكم هائل في البيئات البحرية والبرية، كما يتسرب إلى السلاسل الغذائية، مسببًا مخاطر جسيمة للتنوع الحيوي والصحة العامة. وقد تجاوز الإنتاج العالمي من البلاستيك 400 مليون طن متري سنويًا، يُلقى معظمه بعد استخدام قصير الأمد، مما أدى إلى انتشار جزيئات البلاستيك الدقيقة التي تتخلل الأوساط البيئية والكائنات الحية. وتؤكد هاتان الأزمتان المترابطتان على ضرورة تبني استراتيجيات مستدامة ومرتكزة إلى الحلول البيولوجية.
ومن اللافت أن بعض الأنواع الفطرية قد أظهرت مرونة بيئية وقدرات أيضية استثنائية في البيئات القاسية، مما يجعلها مرشحة واعدة للمعالجة البيولوجية. ففي أعقاب كارثة تشيرنوبيل النووية، رصد الباحثون مستعمرات من الفطر الميلانيني Cladosporium sphaerospermum وهي تنمو على الأسطح المشعة للمفاعل. وقد أظهر هذا الفطر قدرة فريدة على تحمّل الإشعاع المؤين واستغلاله كمصدر للطاقة، في آلية تشبه التمثيل الضوئي لدى النباتات. ويُعزى هذا التكيف إلى المحتوى العالي من الميلانين، الذي يمكّنه من تحويل الإشعاع الكهرومغناطيسي إلى طاقة كيميائية تدعم نموه السريع في البيئات عالية الإشعاع. وتشير هذه الخصائص إلى إمكانات تطبيقية في المعالجة البيولوجية للمواقع الملوثة إشعاعيًا وتطوير مواد واقية حيوية الطابع لحماية رواد الفضاء من الإشعاع الكوني، بما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة في الابتكار التكنولوجي والمرونة المناخية.
وفي الوقت ذاته، وفي الوقت ذاته، اظهرت الطبيعة قدرة جديدة للتخلص من التلوث البلاستيكي، ولا سيما البولي يوريثان، من خلال للتحلل البيولوجي. ففي اكتشاف رائد في غابات الأمازون الإكوادورية، تمكن باحثون من جامعة ييل من عزل نوع فطري يُدعى
Pestalotiopsis microspora
، قادر على تحلل البولي يوريثان في ظروف هوائية ولاهوائية . وعلى خلاف المسارات التقليدية لتحلل الميكروبات، التي تعتمد عادةً على الأكسجين وتعاني من بطء في معدل التحلل، يفرز هذا الفطر إنزيمات تحفز التحلل السريع للبولي يوريثان إلى نواتج غير ضارة بيئيًا. وتجسد هذه القدرات الفطرية المتميزة الإمكانات الكامنة للموارد الفطرية في مواجهة اثنين من أعقد التحديات البيئية المعاصرة.
إن استغلال الخصائص الممتصة للإشعاع لدى
Cladosporium sphaerospermum وكفاءة Pestalotiopsis microspora في تحلل البلاستيك يعد خطوة واعدة نحو تعزيز سلامة النظم البيئية، ودعم مبادئ الاقتصاد المستدام، والمساهمة في تحقيق الأهداف العالمية للاستدامة. ولا شك أن استمرار البحث متعدد التخصصات والابتكار التكنولوجي في هذا المجال أمر حيوي لبناء مستقبل أكثر مرونة واستدامة لكوكب الأرض